العقل الجمعي وجهل المجتمع ( للمهتمين)
مروان كاظم الكعبي
يتكون العقل الجمعي من مجموعة عوامل ثقافية و دينية ونفسية وتربوية واجتماعية و شخصية التي يعتمد عليها الفرد في تبني أفكار وآراء الأشخاص المؤثرين فيها . حيث يعد العقل الجمعي آفة خطيرة تأكل المجتمع وتهلكه . والعقل الجمعي ظاهرة نفسية اجتماعية تفترض فيها الجماهير إن تصرف جماعة أو أشخاص معينة في حالات معينة وموقفها اتجاه حدث ما يعكس سلوكا صحيحا . وهذا يعني تبني احد الأشخاص فكرة أو سلوك معين حيث تقوم الجماهير بتناقل هذا السلوك او الفكرة بلاوعي بدون التفكير فيها وإعطاء الأدلة البراهين . وهي ظاهرة تنتشر في مجتمعنا الحالي وتعتمد العوامل المؤثرة على العقل الجمعي وتتعدد في وقتنا الحاضر الى :
– عامل ديني : شخصيات دينية مؤثرة في المجتمع .
– عامل اجتماعي وإعلامي : ظهور شخصيات وصفحات مؤثرة على مواقع التواصل الاجتماعي التي تؤثر على الفكر والعقل الجمعي .
– العامل السياسي والحزبي : وهذه أكثر العوامل التي أثرت في تراجع الفكر وبناء الفرد والمجتمع وكانت السبب في التخلف والجهل والتراجع الثقافي الذي نمر به . حيث يدخلون الى الفرد من خلال معتقداته ويؤثرون بها ليكسبوه لصالحهم حتى أصبحت قاعدتهم الجماهيرية كبيرة ولهم تأثير كبير عليها .
ويؤكد عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم ( 1858 ـ 1917 ) مؤسس نظرية العقل الجمعي على ضرورة التمييز بين ما يسميه بالتصورات الفردية التي ترتبط بالأفراد والمجموعات في بيئات وثقافات معينة ولا تصلح للتعميم زمنيا أو مكانيا، والتصورات الجمعية المشتركة بين الشعوب وبين الأجيال التي تؤثر في سلوكهم دون وعي مباشر بها، وتمثل تلك التصورات الروح أو المادة التي يقوم عليها المجتمع. ويؤكد دوركايم على أن الحياة العقلية تتكون من التيارات و التصورات المستقرة في أذهان الناس بعضها فردي وبعضها جمعي .
يقول الدكتور عامر صالح الأخصائي في علم النفس إن عملية الانصياع الأعمى وراء العقل الجمعي بتفرعاته الدينية والطائفية والقومية والسياسية هي عملية تغيبيه وغسل دماغ وتجهيل، وهي عملية يمكن توضيحها بعملية الارتداد على الذات.
وهذا ما يحصل في الوقت الحالي من انصياع خلف الشخصيات التي تقود المجتمع لأجل مصالح شخصية يجهلها العقل الجمعي والفردي وبسبب الثقة المطلقة التي أعطت لتلك الشخصية والانجرار وراء العاطفة بعيدا عن المنطق والواقعية مما يؤدي الى نقل سلوك وأفكار سلبية تحطم الشخص والمجتمع .
أن العقل الجمعي سيكولوجيا هو أسوء نماذج العقول حيث ينساق المرء فيه وراء غرائزه البدائية من خلال الإحساس بالأمن الشكلي ضمن المجموع، فيلجا إلى الحلول ذات الصبغة الأرضائية الساذجة للمجموع دون إدراك لمخاطرها المستقبلية في بناء الاستقرار الفعلي على مستوى الفرد والمجتمع، وتحول الكيان الفردي المفكر والمبدع، والذي بفعل فرديته المميزة يضفي جمالا على مختلف الظواهر السياسية والاجتماعية، من شخصية واعية إلى شخصية متلاشية تضمر فيه إنسانيته ولا يرى الأشياء إلا بلونين أما الأسود أو الأبيض، ومن هنا تبدأ المشاعر المكبوتة في الظهور في وسط “الحشد ” حيث يشعر الفرد بالأمان الشكلي لأنه جزء من كيان ضخم يصعب عقابه أو مسائلته عند ارتكاب مختلف الجرائم والسلوكيات .
يحدثنا غوستاف لوبون الطبيب والمؤرخ الفرنسي ( 1841 ـ 1931 ) في كتابه الشهير ” سيكولوجية الجماهير ” وهو مؤسس ” علم نفس الجماهير ” أن العقل الفردي يختلف عن العقل الجمعي في التفكير، فالأول قد يصل إلى قرارات منطقية، ولكنه إذا انجرف مع العقل الجمعي فقد يتصرف بصورة سلبية .
يعاني المجتمع العراقي خصوصا من التفكير والتصرف الجمعي الغير عقلاني في الكثير من المواقف والسلوكيات التي تبنى على شخص واحد أو عدد من الأشخاص وهنا يتكلمون عن مصالح أو آراء قد تكون خاطئة وقد تقود المجتمع غير صحيح لتخلق الخلافات وتصنع الطائفية مثلما تعمل عليه الأحزاب لتهاجم بعضها بهذه الطريقة .
كما أكد القران الكريم في الكثير من آياته المباركة ووصف بها العقل الجمعي وأكد على التأني والتفكير الفردي في جميع مواقف الحياة .
وحرصه أيضا على نجاة الفرد من عواقب التفكير الجمعي حتى يكون عنده تفكيرا حرا بعيدا عن تأثير المجموعات بما يشكله من تأثيرات بيئية سلبية فيدفعه الى التشتت المذموم سواء كان ذلك في السلوك أو في العاطفة , أن حركة تحرير العقل التي دعا إليها القران الكريم تعد اكبر حركة تحرر قد تمت وذلك لأنها لا تنقذ جسدا من اسر , بل تنقذ عقلا من جاهلية , تلك كانت من أعظم دعوات القران الكريم , إذ أراد الله ان ينقذ الإنسان من الأسر الجمعي وثقافة القطيع التي يتبعها الكثيرين ممن ينتمون للأحزاب والتيارات فيقول تعالى واصفا آليات النجاة والتحرر من الأسر الجمعي في سورة سبأ : ( وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي ۖ فَكَيْفَ كَانَ نَكِير 45 قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ۖ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ) سبأ 45 : 46 ففي هذه الآيات نجد وصفا لسلوك المجتمع والذي ينتج عن تفكير العقل الجمعي الفاسد , متخذا قراره في تكذيب الرسل ولذا كان وعظ النبي لهم ملخصا في شيء واحد ألا وهو ان يقوموا لله مثنى وفرادى والسر في ذلك ان ينتشلهم من عمامة واسر ثقافة القطيع والعقل الجمعي الفاسد , الى رحابة الفكر الفردي وتحرير العقل بعيدا عن مؤثرات المجموعة . فينتج التفكير المتحرر معلنا حريته من قيود واسر العقل الجمعي الغالب , فيهتدوا الى ان صاحبهم ليس به جنه بل هو نذير مبين , ولن يستطيعوا أن يعلوا الى هذا أثناء تواجدهم ووقوعهم في شباك اسر المجموعة بل يجب ان يفكروا فرادى او أقصى تقدير مثنى حيث سعة التفكير الفردي وعبقرية التحرر كي يهتدوا للحقيقة وفي هذه الآيات دعوة صريحة الى التحرر من قيد المجموعة الى رحابة التفكير الحر بصورته الفردية .
وللتخلص من التفكير والعقل الجمعي حتى تكون مخرجات سلوكياتنا وآراءنا دقيقة و صحيحة التي تساعد في بناء المجتمع وتصحيح الأخطاء التي يقع فيها الكثيرين ممن يفكرون بصورة شخصية وسلبية , وتعد عوامل الابتعاد عن العقل الجمعي هي عدم التسرع في نقل المواضيع والاستناد على الأدلة والابتعاد عن التبعية العاطفية والانجرار خلف الشخصيات التي تفكر بشكل مختلف , حيث علينا البحث في مسببات الموضوعية للحوادث التي تقع أمامنا , كما يعد الابتعاد عن مشاعر الغضب والكراهية والنرجسية سيأخذنا الى معالم رحبة بعيدة كل البعد عن الصراعات الفاشلة التي يقع ضحيتها الإنسان البسيط ويدفع ثمنها الأبرياء , وعلينا جميعاً إيجاد منافذ آمنة وحضارية وفعالة لتغيير العقل الجمعي السلبي الى العقل الجمعي الايجابي لئلا يصاب بالشلل ونبقى نراوح في دوامة الصراعات والحروب والجهل في ما بيننا وغيرنا من يكسب هذه الحروب والخلافات الفكرية المقصود زرعها بين مجتمعنا .